أساليب العربية وخصائصها التركيبية:
تميَّزت اللغة العربية بمميزات فريدة وخصائص حميدة لم تجتمع في غيرها من
اللغات؛ مثل فصاحة الكلم، وعذوبة اللفظ، وجزالة التركيب، ورقَّة العبارة، ودقة
الدلالة، والقدرة على التوليد والاشتقاق؛ لذا اختارها الله عزَّ وجلَّ سبحانه
لتكون أداة التوصيل ووعاء التفكير للرسالة الخالدة، التي تنتظم جميع شؤون الحياة،
وتستجيب لكافة مشكلاتها، فأنزل كتابه الكريم بلسان عربي مبين، قال تعالى: ﭽ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﭼ. واختيار
اللغة العربية لتكون لغة التنزيل في الرسالة الخاتمة، يتطلب خلود هذه اللغة بخلود
الرسالة، والاستجابة المستمرة للظروف والأحوال التي يكون عليها الناس على اختلاف
الأزمان والعصور، ومواكبة الإنتاج العلمي والمعرفي والحضاري في سائر العلوم
والفنون، حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ لذا كان هذا الاختيار الرباني إشارة إلى
سعة هذه اللغة ومرونة نظامها وغنى مفرداتها، بحيث لا يضيق لفظها عن التعبير عن أي
معنى، ولا تقصر مفرداتها وأساليبها عن وصف أي علم أو فن.
وفيما يلي سوف نتناول بعض ما اشتملت عليه هذه اللغة من ميزات وما تضمنته من
خصائص:
على المستوى الصوتي:
اتساع المدرج الصوتي لحروف العربية:
حروف
العربية تسعة وعشرون حرفاً إذا اعتبرنا الهمزة حرفاً مستقلاً؛ لأنها لها صورة في
النطق بخلاف الألف، وهذه الحروف بحسب ترتيبها في المخرج هي: الهمزة والألف والهاء
والعين والحاء والغين والخاء والقاف والكاف والضاد والجيم والشين والياء واللام
والراء والنون والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والثاء
والفاء والباء والميم والواو.
وتتوزع
مخارج الحروف في العربية بشكل متوازن على طول المدرج الصوتي الممتد من أقصى الحلق
وحتى الشفتين مع الخيشوم، فنجد الفاء والباء والواو الساكنة مخارجها من الشفتين،
الهمزة والهاء والعين والحاء ثم الغين والخاء مخارجها من الحلق أقصاه فأدناه، وما
بين هذين المخرجين تتوزع باقي حروف العربية، وهذا التوزع المريح يسهل عملية النطق للكلمات،
ويحسِّن من وقع جرسها في الأذن، ويمكّن المتكلم من أداء حقها عند التلفظ بها.
بينما نجد المدرج الصوتي في لغات أخرى ينحصر في نطاق ضيق ومدرج صوتي أقصر، بحيث
تتزاحم وتتجمع في جانب الشفتين وما والاهما من الفم أو الخيشوم في اللغات الكثيرة
الغنة، أو نجدها متزاحمة في جهة الحلق في لغات أخرى، وهذا من شأنه أن يُثقل على
المتكلم، ويشوش على السامع؛ لأن المتكلم حين يتتابع عليه نطق حروف متقاربة في
المخرج فإنه يُنقِص من حقها في الظهور التام، مما يؤدي إلى عدم وضوحها.
ولمعرفة مخرج الحرف لا بد من النطق به ساكناً أو مشدداً بعد همزة وصل،
وحيثما انتهى الصوت المتولد عن اصطدام النفس بالأوتار الصوتية يكون المخرج،
"فالصوت عَرَض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً، حتى يعرض له في الحلق والفم
والشفتين مقاطع تُثنيه عن امتداده واستطالته، فيُسمى المقطع أينما عرض له
حرفاً". فلمعرفة مخرج الباء مثلاً، نقول: ابْ، أو ابّ، ولما انتهى الصوت عند
الشفتين كان مخرجها الشفتين.
قال ابن جني: "وسبيلك إذا أردتَ اعتبار
صدى الحرف أن تأتي به ساكناً لا متحركاً؛ لأن الحركة تُقلق الحرف عن موضعه
ومستقرِّه، وتجتذبُه إلى جهة الحرف الذي هي بعضه، ثم تُدخل عليه همزة الوصل مكسورة
من قبله؛ لأنَّ الساكن لا يمكن الابتداء به، فتقول: اِكْ، اِقْ، اِجْ، وكذلك سائر
الحروف".
مخارج الحروف:
أنواع المخارج خمسة، هي:
الجوف؛ وهو الخلاء الداخل في الفم، والحلق واللسان والشفتان، والخيشوم وهو أقصى
الأنف.
ومخارج حروف العربية سبعة عشر مخرجاً: فلمخرج
الجوف حروف المد، وهي: الألف، والواو الساكنة المضموم ما قبلها، والياء الساكنة
المكسور ما قبلها؛ وذلك لأنها ليس لها حيز محقق.
ثم لأقصى الحلق الهمزة والهاء، ولوسطه العين
والحاء، ولأدناه الغين والخاء، وهذه حروف الحلق.
ثم لأقصى اللسان مما يلي الحلق القاف يليه
الكاف، وتسمى الحروف اللهوية؛ نسبة إلى اللهاة. ولوسط اللسان مع ما يحاذيه من وسط
الحنك الأعلى الجيم ثم الشين ثم الياء غير المدية، وهي الحروف الشجرية، لخروجها من
شجر الفم وهو منفتح ما بين عظام الأسنان السفلية. ثم لإحدى حافتي اللسان مع ما
يحاذيها من الأضراس العليا مخرج الضاد. ولأدنى حافتي اللسان إلى منتهى طرف اللسان
مع ما يحاذيها من الأسنان مخرج اللام. ومن طرف اللسان مع أصول الثنايا العليا مخرج
النون، مع الغنة من الخيشوم. ويُقارب مخرج النون مخرج الراء، إلا أنَّه أدخل إلى
ظهر اللسان. وتسمى اللام والنون والراء الحروف الذلقية لأنها من ذلق اللسان وهو
طرفه. ثم من ظهر اللسان وأصول الثنايا العليا مخرج التاء والطاء والدال، وهي
الحروف النطعية؛ لأنها من نطع غار الحنك الأعلى وهو سقفه. ثم من رأس اللسان
والثنايا السفلى يخرج الصاد والزاي والسين، وهي حروف الصفير وتسمى أيضاً الحروف
الأسلية لأنَّها من أسلة اللسان وهو مستدقه. ثم من رأس اللسان وأطراف الثنايا
العليا الذال والثاء والظاء، وتسمى الحروف اللِّثوية، لقربها من اللِّثة، وهي
اللحم النابت حول الأسنان.
ثم من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا
مخرج الفاء. ومن بين الشفتين مع انفتاحهما مخرج الواو غير المدية، ومخرج الميم
والباء من بين الشفتين بانطباقهما، مع الغنة من الخيشوم في حرف الميم، وهذه الحروف
هي الحروف الشفوية.
صفات الحروف:
إن حروف العربية لا تتميز أصواتها بعضها عن
بعض باختلاف المخارج فقط، بل لها صفات في الأداء تميِّزها عن بعضها، خاصة تلك
المشتركة في المخرج، والمشهور منها سبع عشرة صفة:
الهمس وحروفه (فحثَّه شخص سكت)، والجهر وحروفه
ما عدا حروف الهمس. والهمس هو الخفاء، وخفاء الحرف يحصل بسبب جريان النفس عند
النطق به. والجهر هو الإعلان، ويحصل بسبب انحباس النفس عند النطق بالحرف، ممَّا
يؤدي إلى الضغط على الوترين الصوتيين، ومن ثم اهتزازهما بشدة ممَّا يؤدي إلى
ارتفاع درجة الصوت.
الشدة وحروفها (أجد قط بكت)، والتوسط وحروفها
(لن عمر)، والرخاوة وحروفها ما عدا حروف الشدة والتوسط. والشدة القوة؛ وتكون بسبب
انحباس الصوت عند النطق بالحرف لكمال الاعتماد على المخرج، والرخاوة اللين؛ وتكون
بسبب جريان الصوت عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج، والتوسط ما بينهما.
والحرف الشديد المهموس، وهو الكاف والتاء،
يكون شديد عند المخرج بسبب انغلاقه، ثم يخرج مهموساً بعد انفتاح المخرج.
الاستعلاء وحروفه (خُصَّ ضغط قظ)، والاستفال
وحروفه ما عدا حروف الاستعلاء. والاستعلاء تصعد الصوت عند النطق بالحرف في الحنك
الأعلى؛ بسبب ارتفاع أقصى اللسان عن وسطه، والاستفال انخفاض الصوت عند خروج الحرف
عن الحنك الأعلى إلى قاع الفم، بسبب عدم ارتفاع أقصى اللسان عن بقية أجزائه.
الإطباق وحروفه (ص، ض، ط، ظ)، والانفتاح
وحروفه ما سوى حروف الإطباق. والإطباق هو الالتصاق؛ بحيث تنطبق طائفة من اللسان مع
ما يحاذيه من الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، والانفتاح هو تجافي اللسان أو أكثره
عن الحنك الأعلى عند النطق بالحرف.
الإذلاق وحروفه (فرَّ من لبِّ)، والإصمات
وحروفه ما سوى حروف الإذلاق. والإذلاق من الذلق وهو الطرف، وسميت حروف الإذلاق
بذلك لأنها تخرج من طرف اللسان أو طرف الشفة، والإصمات من المنع، وسميت حروف
الإصمات بذلك لأنَّه يمتنع أن تنفرد أصولاً في الكلمات الرباعية أو الخماسية، بل
لا بد أن يكون معها حرف من الحروف المذلقة الخفيفة، فتعدل ثقل الحروف المصمتة.
الصفير وحروفه (الصاد والسين والزاي)، سميت
بذلــــك لصوت الصفير الذي يخرج معها عند النطق بها، والذي يشبه صفير الطائر.
القلقلة وحروفها (قطبُ جَدٍ)، سميت بذلك لأن
الحرف يتقلقل في مخرجه عند النطق به ساكناً بحيث يسمع له نبرة قوية، بعد تباعد
طرفي عضو النطق، فبسبب انقفال المخرج عند تسكين الحرف، يشتد الصوت ويبدأ بالضغط
حتى ينفتح المخرج فعندئذ تُسمع القلقلة مع صوت الحرف، وهي صوت فوق السكون وتحت
الحركة.
اللين وحروفاه (الواو الياء الساكنتان المفتوح
ما قبلهما)، وسمِّيا بذلك لأنهما يجريان في لين وعدم تكلف، كما في
"خَوْف" و"بَيْت".
الانحراف وحرفاه اللام والراء، وسمِّيا بذلك
لانحراف مجرى الصوت عند النطق بهما بسبب اعتراض اللسان طريقه.
التكرير وحرفه الراء؛ لقابلية الراء للتكرار
وارتعاد اللسان عند النطق بها، وهي صفة احترازية ينبغي الاحتراز عنها عند قراءة
القرآن.
التفشي وحرفه الشين؛ وسمي بذلك لانتشار الهواء
في الفم عند النطق به.
الاستطالة وحرفها الضاد، وسمي بذلك لاستطالته
في مخرجه حتى يتصل بمخرج اللام.
وهذا التنوع في المخارج والتعدد في الصفات من
شأنه أن يميز الحروف بعضها عن بعض؛ بحيث يجعلها تتحقق في النطق، وتتأكد في الأذن،
بما يريح المتكلم عند لفظها، ويسهل على السامع إدراكها.
وقد أجاد ابن جني حين شبه هذا التنـوع في
أصـوات الحروف بتنوع أصوات النغم الصادر عن العود، حيث قال: "ونظير ذلك ..
وتر العــود، فإن الضارب إذا ضربه وهو مرسَل سمعتَ له صوتاً، فإذا حَصرَ آخر الوتر
ببعض أصابع يسراه أدى صوتاً آخر، فإن أدناها قليلاً سمعتَ غير الاثنين، ثم كذلك
كلما أدنى إصبعه من أول الوتر تشكلت لكَ أصداء مختلفة، إلا أنَّ الصوت الذي يؤدِّه
الوتر غُفلاً غير محصورٍ تجده بالإضافة إلى ما أداه وهو مضغوط محصور أملسَ مهتزاً،
ويختلف ذلك بقدر قوة الوتر وصلابته، وضعفه ورخاوته، فالوتر في هذا التمثيل كالحلق،
والخفة بالمضراب عليه كأول الصوت من أقصى الحلق، وجريان الصوت فيه غفلاً غير محصور
كجريان الصوت في الألف الساكنة، وما يعترضه من الضغط والحصر بالأصابع كالذي يعرض
للصوت في مخارج الحروف من المقاطع، واختلاف الأصوات هناك كاختلافها هنا".
وقد بقيت حروف
العربية ينطق بها كما نطق بها الأوائل منذ قرون طويلة، بصفاتها ومخارجها وأحوالها
من غير أن يطرأ عليها أي تبدل أو تغير، والفضل في ذلك يعود إلى الحرص على أداء
اللفظ القرآني كما أُنزل على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والذي جاء مشابها
لنطق العرب الأقحاح.
2.
مراعاة
الانسجام الصوتي والتآلف الموسيقي عند اجتماع الحروف في الكلمة الواحدة:
عملت
العرب عند صناعتها للغة على مراعاة انسجام جرس الحروف عند ضمها مع بعض في الكلمة
الواحدة، وذلك بالجمع بين الحروف المتباعدة في المخرج، ليسهل النطق بها، ويحسن
وقعها في الأذن، ووصف اللفظ بالفصاحة إذا كان حسن النغم منسجم التأليف، قال الشريف
الجرجاني: "الفصاحة في اللغة عبارة عن الإبانة والظهور، وهي في المفرد خلوصه
من تنافر الحروف والغرابة([1])
ومخالفة القياس([2])".
وعلل ابن سنان الخفاجي كراهية العرب الجمع بين
الحروف المتقاربة لما فيه من التنافر، فقال: "وعلة هذا واضحة، وهي أن الحروف
التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك في أن الألوان
المتباينة إذا جمعت، كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة؛ ولهذا كان البياض
مع السواد أحسن منه مع الأصفر، لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبعد ما بينه وبين
الأسود. وإذا كان هذا موجوداً على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه، كانت العلة في
حسن اللفظة المؤلفة من الحروف المتباعدة هي العلة في حسن النقوش إذا مزجت من
الألوان المتباعدة".
وقال أيضاً: "ووقوع المهمل في هذه
اللغة... في الأكثر، اطراح الأبنية التي يصعب النطق بها لضرب من التقارب في
حروفها، فلا يكاد يجيء في كلام العرب ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة...
وحروف الحلق خاصة مما قل تأليفهم لها من غير فصل يقع بينها، كل ذلك اعتماداً
للخفة، وتجنباً للثقل في النطق، فأما القاف والجيم فلم تتجاور في كلامهم البتة، لم
يأت عنهم: قج، ولا جق، ولا كج، ولا جك، ولا قك، ولا كق، وكل ذلك فراراً مما
ذكرناه".
وقد قسم أهل العربية تأليف الحروف إلى ثلاثة
أقسام: الأول تأليف الحروف المتباعدة، وهو أحسن الأقسام، والثاني تضعيف الحرف
نفسه، وهو يليه في الحسن والمرتبة، والثالث تأليف الحروف المتقاربة، وهو قليل في
كلامهم ومنبوذ في كثير من الحروف، ومن الحروف التي لا يتركب بعضها مع بعض الصاد
والسين والزاي، فليس في كلام العرب سص ولا سز ولا زس ولا زص.
ولم
يرجعوا حسن التأليف في اللفظ إلى الجمع بين الحروف المتباعدة فقط، بل ردُّوه أيضاً
إلى طريقة ترتيب الحروف في اللفظة، قال ابن سنان الخفاجي: وذلك "أن تجد
لتأليف اللفظة في السمع حسناً ومزية على غيرها، وإن تساويا في التأليف من الحروف
المتباعدة، كما أنَّك تجد لبعض النغم والألوان حسناً يُتصور في النفس، ويُدرك
بالبصر والسمع دون غيره ممَّا هو من جنسه، كل ذلك لوجه يقع التأليف عليه. ومثاله
في الحروف (ع ذ ب)، فإنَّ السامع يجد لقولهم: العُذَيب، اسم موضع، وعذيبة، اسم
امرأة، وعَذْب، وعِذاب([3])،
وعَذَبَ([4])،
وعذَبات([5])، ما
لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف، وليس سبب ذلك بُعد الحروف في المخارج
فقط، ولكنه تأليف مخصوص مع البعد، ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة
الأولى، في تقديم العين على الذال، لضرب من التأليف في النغم يفسده التقديم
والتأخير، وليس يخفى على أحد من السامعين أن تسمية الغصن غصناً أو فنناً، أحسن من
تسميته "عُسلوجاً"، وأن "أغصان البان" أحسن من "عساليج
الشّوحط" في السمع".
وقال
بهاء الدين السبكي: "اعلم أن أحسن هذه التراكيب وأكثرها استعمالاً ما انحدر
فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى، ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى
الأعلى، ثم من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط... وأقل الجميع استعمالاً ما انتقل
فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط".
ولو تدبرنا أمثلة ذلك في القرآن الكريم لوجدنا
أنه لا يتوقف عند ترتيب الحروف في الكلمة فحسب، بل أيضاً ترتيب الكلمات في النظم،
وسردها بتقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه؛ لمراعاة نظم الحروف وتنسيقها في النطق
على نحو معجز، نحو قوله تعالى: ﭽ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﭼ، فذُكرت خمسة أسماء أخفها في النطق "الطوفان"
و"الجراد" و"الدم"، وأثقلها "القمَّل"
و"الضفادع"، فقدم "الطوفان" لمكان المدَّينِ فيها، حتى يأنس
اللسان بخفتها، ثم "الجراد" وفيها مد واحد، ثم جاء باللفظين الشديدين
مبتدئاً بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت؛ لمكان الغنة فيه، ثم جيء بلفظة
"الدم" آخراً، وهي أخف الخمسة وأقلُّها حروفاً؛ ليسرع اللسان فيها
ويستقيم لها ذوق النظم، ويتم بها الإعجاز في التركيب.
ومن أمثلة ذلك أيضاً استعمال لفظ
"الأكواب" على الجمع بدل الإفراد في القرآن، حيث لم يرد لفظ
"الكوب" فيه أبداً؛ لأنَّه لا يتهيَّأ للفظ المفرد في النطق ما يكون في
لفظ الجمع من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب.
ومن ذلك الاستعاضة في التعبير عن لفظ الآجر
والقرمد لما فيهما من الثقل والتنافر، بلفظ أرق، ودلالة أعذب، وبيان أفصح من الفجر
في الكشف والإبانة، وذلك في قوله تعالى: ﭽ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮒ ﭼ،
حيث عبر عن لفظة "الآجر" بقوله: ﭽﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅﭼ، وفي هذا التعبير، لا سيما من قلقلة الدال وما تلاها من رقة اللام،
ما لا يخفى على السامع من العذوبة واللطف ما ينتزع معه النفَس انتزاعاً.
ومن ذلك أيضاً ذهاب ما في
لفظة "النُذُر" من الثقل بسبب ما جاورها من ألفاظ وأصوات، ففي قوله
تعالى: ﭽ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔﭼ، لو أخذنا لفظة
"النذر" وحدها، لوجدنا فيها ثقلاً ناجماً عن تتابع الضم في النون والذل
واختتامها بالراء في الوقف، ولكنَّا لو نظرنا إليها في نظم القرآن، وما ترتَّب
معها من الأصوات، لوجدنا الأمر مختلف، فكأنَّما هي تثقيل لخفة ما سبقها من تتابع
الفتحات ما بين الطاء والواو في "بطشَتَنَا" و"فَتَمَارَوا"،
مع خفة المدود الفاصلة بينها، فجاءت التثقيل هنا لأجل هذه الخفة، بحيث يستخف معها،
وتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، كما أنَّ الراء في
"تماروا" قد جاءت مساندة للراء في "النذر"، حتى إذا ما انتهى
اللسان إلى هذه، انتهى إليها من مثلها، فلا تنبو فيه ولا تغلظ.
ومما استعذبوه من الألفاظ أو استقبحوه لهذه
العلة أيضاً في كلامهم، ما مثَّل له ابن سنان الخفاجي بقوله: "ومثل ذلك مما
يُختار قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في
بعض رسائله: ورَعُوا هشيماً تأنَّفت([6])
روضه، فإنَّ "تأنَّفت" كلمة لا خفاء
بحسنها،
لوقــوع الموقع الذي ذكـرته، وكذلك قول أبي الطيب المتنبي:
إذا سارت الأحداج([7])
فوق نباتهِ تفاوحَ مسكُ الغانياتِ
ورندُهُ([8])
فإنَّ "تفاوح" كلمة في غاية من
الحسن، وقد قيل: إنَّ أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال...
ومثال ما يُكره قول أبي الطيب أيضاً:
مباركُ الاسمِ أغرُّ اللقب كريمُ الجِرِشَّى([9])
شريفُ النسب
فإنَّك تجد في "الجرشَّى" تأليفاً
يكرهه السمع وينبو عنه. ومثل ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
تقيٌّ نقيٌّ لم يكثِّر غنيمة بنَهْكة([10]) ذي
قربى ولا بحَقَلّدِ([11])
"الحقلّد" كلمة تُوفي على قبح
"الجرشي" وتزيد عليها".
([7]) الحِدجُ مركب ليس
برَحل ولا هودج تركبه نساء الأعراب. ابن منظور، لسان العرب، مادة (حدج)، 2/ 230.